منقول من عدد قديم من مجلة صباح الخير
الانغام تتلاحق, وتسرع وكأنها تصاحب انفاسه
منذ سنوات ,وقد تعود ان يهبط الي فينيسيا في شهر "الكارنافالو" يتوه بين زحام البشر, في ميدان "سان ماركو" الشهير , ويرقصون ويغنون من حوله, ويطلون عليه من خلف اقنعتهم الملونة او يقذفونه بالبالونات وهو محتم بمعطفه الثقيل, والكوفية السوداء حول رقبته تغريهم علي مداعبته, ومطاردته في الشوارع الضيقة الملاصقة للقنوات فيضخك معهم بلا معرفة, وتغتسل نفسه من هموم بعيدة,ويجد نفسه في النهاية مستسلما للرقصة الجماعية في نهاية ليلة مهرجان الاقنعة,والصواريخ النارية الملونة تضئ السماء ,وتسقط اضواءها علي وجهه العاري.
العاري؟ نعم. فعندما ترتدي المدينة كلها الاقنعة,وتختفي الملامح خلف وجوه زجاجية او شمعية وتصبح الضحكات من البلاستيك والعيون من الرجاج ,ويصبح هو بوجهه المكشوف هدفا للفضول,وكأن ملامحه الحقيقية ,ليست ملامحه! وإنما قناع ابتكره لينفرد بالجدة والطرافة ويتميز من آلاف البشر ,يتعري تحت المطر والعيون الفضولية التي تحاصره في الحاح دائم
من مقهي "الفلورين" حتي مرسي "الجوندولا" حيث وقف هذا الشبح الذي يعطي موعدا لاهل المهرجان في كل عام بمعطفه الاسود الطويل, وقناع الجمجمة الذي يغطي رأسه والمنجل ذي النصل النصل اللامع في يده ,يثير الرعب والخوف,وهو منتصب في مكانه لا يغادره,حتي رقصة منتصف الليل.. فينزل الدرجات الخشبية معطيا ظهره الي البحر ..يمد يده إلي من يختاره من جمهور المهرجان ,فيتباعد الجميع في حلقة واسعة ,وحيث الصمت المفاجئ ,قبل أن تعزف الاوركسترا "فالس الوداع" والموت يراقص ضحيته.
جلال مذهل وخطوات رشيقة!
وقد سمع الكثير حول شخصية هذا الموت المقنع..سمعهم يقولون إنه واحد من اشهر راقصي الباليه الفلورنسي,يأتي كل عام إلي فينسيا ليحيي تقليدا قديما متوارثا!
وسمع من يقول انه ممثل وسيم سبق ان لعب شخصية دون جوان فلما تقدمت به السن استبدل آهات الاعجاب ..بآهات الرعب ليطرب لها خلف قناعه المفزع!
ومع الوقت كف الجميع عن طرح الاسئلة وقنعوا بالالتفاف من حوله عن بعد ينتظرون موعدهم معه في الحادية عشرة مساءا حتي منتصف الليل..يأتي فجأة ..ويرحل فجأة.. تاركا خلفه سؤالا دائما بلا جواب ..من هو؟
وضع فيلما شديد الحساسية في آلة التصوير الصغيرة المزودة بالفلاش وتقدم مدفوعا بالفضول وامواج من البشر التي تدفعه نحو مرسي " الجوندولا"
الساعة تجاوزت العاشرة ..وتقترب من الحادية عشرة ,اعلي ميدان سان ماركو..في الحادية عشرة سيظهر الموت في مكانه التقليدي,الانظار كلها تجمعت في اتجاه واحد.
نحو الدرجات الخشبية التي يقف عليها في ثبات وخيلاء..والهمسات تعلو..انه يأتي من جزيرة "سان جيورجو"..في جندول سوداء بلا مجداف تنفخ فيها ريح ليلية .همسات اخري تؤكد ..لا .. بل هو يهبط من البرج القديم يغافل الجميع !
لا ..إنه يسبح عائدا من اعماق البحر مخترقا القنوات لا تغرقه المياه ولا يبلله المطر!
دقيقة واحدة علي الحادية عشرة!
الانظار معلقة بعقرب الدقائق مع رعشته الاخيرة.
همهمة..
امواج البشر تدفعه نحو مرسي الجوندولا..تلقي به علي الدرجات الخشبية..الكاميرا تنزلق وتدوسها الاقدام ..يد تمتد اليه ترفعه من كبوته..يد رقيقة في قفاز مخملي..رفع عينيه ليري الموت يطل عليه...
وجهه تجمد وبريق مذهل يحتويه ويغرقه في اطلالة النظرة البعيدة الاغوار التي جذبته بلا مقاومة..
سكتت.. الهمهمات تسكت فجأة..
بدأت الاوركسترا تعزف الفالس..اليد الرقيقة تمسك يده ولا تتخلي في نفس الوقت عن..اليد الاخري احاطت بخصره تجذبه ,وتدور به.
انجذب الي صدر الموت..والانغام تتلاحق..وتسرع وكأنها تلاحق انفاسه..
اقترب من وجه الموت,التصق به..تنفس بعمق عطرا خدر حواسه.
شعر انه يرقص بلا وزن..انه فقد قدميه..واستبدلهما بجناحين..انه يغرق في احضان الموت,ينام متيقظا علي صدره..استدعي في عنف حواسه..استنجد باخر ما يملكه من ارادته قبل ان يتلاشي تماما, دقيقة قبل منتصف الليل..
عقرب الدقائق سيرتعش رعشته الاخيرة..الملائكة سيطروقون الطرقة الاخيرة علي الناقوس..العجوز تخلص بعنف من قبضة اليد المخملية..ورفع اصابعه الي قناع الموت الذي اطل عليه..جذبه مرة واحدة في عنف.
تلامس عقرب الدقائق والثواني..
ودق الملائكة الناقوس انثتي عشرة دقة مع قلبه المتهدج..غمره ضياء مذهل.. اطل عليه وجه تجمعت في ملامحه عذوبة حواء في ميلادها الاول..انحدرت علي كتفه خصلات شعرها..امتلأت عيناعا بالحنان والعتاب..تهدج صوتها مرتعشا.
- اخترتك وفضحتني !
***
وفي الاعوام التالية ..انعقد مهرجان الاقنعة في موعده بفينسيا ولكن شبح الموت اختفي..ورددت الهمسات إنه هرب مع زائر غريب بلا قناع!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق