الاثنين، 12 أبريل 2010

أخذ معه كل ذلك الضوء ___ احلام مستغانمي

مُــذ رحل ونحن نحاول إنقاذ النار التي أشعلها فينا نزار قباني ومضى. ذلك الطفل الزوبعة، ذلك الشاعر الذي حيث يمر تشتعل بمروره فتيلة الشعر.ـ
نقف دَهِشين أمام رمادنا بعده. لماذا خالفنا نصائحه ورحنا نؤمّن على حياتنا ضد الحرائق الجميلة؟ وما نفع ما ننقذه؟ وماذا لو كان الشيء الوحيد الذي أنقذناه حقاً، هو كلّ ما سرقناه من العمر، وسلّمناه وليمة للنار.. نــار الحياة؟
ليس عجباً أن يكون نزار قد أنهى حياته بطلب كوب من الماء.. فنزار قباني حالة نارية، قبل أن يكون حالة شعرية. إنه يُذكّرني بـ«بودلير»، الذي كان يقول ليُثبت غرابته، إنّ أول كلمة لفظها عندما بدأ النطق كانت «ALLUMETTE» أي كبريت! ولا أظن «نيرون» نفسه قد طالب أبويه، حال وصوله العالم، بالنار، هو الذي أحرَق روما في نزوة لهب.ـ

لا أدري من أين جاءت نزار تلك النزعة النيرونيَّـة لإضرام النار في تلابيب النساء اللائي أحببنه وأحبّهن، في أثواب نومهن وفساتين سهراتهن ومناديل بكائهن، وكلّ ما لبسنه لموعدهن الأول معه، أو ما نسينه في غرفته بعد موعد حبّ.ـ

ولا أدري لِمَ كل مدينة أحبَّها أو مَــرَّ بها شَبَّ فيها الحريق ولم يستطع رجال الإطفائية، العاملون على حفظ التقاليد وضبط السلوك، من أجلها شيئاً؟
كان يركب قطار الشعر بعد أن يُفخخه كبريتاً، عابراً كل المدن العربية، ليجرّب فينا سياسة الأرض المحروقة، تاركاً الناس خلفه مفزوعين، مهرولين، مُحمَّلين كل بدلو من الماء.ـ
ذلك أن نزار لم يكتب يوماً بأصابعه، بل بأصابع «الديناميت» التي كان يعدّها لنا بنوايا إجرامية، وبكل عناية شعرية، كما تلف النساء في كوبا على حجورهن السيجار الفاخر.ـ

الآن نكتشف ذلك، وقد توقفت تلك الانفجارات التي كان يُحدثها بين الحين والآخر، فيهزّنا بها، بلداً بعد آخر، وفرداً فرداً. لــــذا، بعد رحيله سَــادَ العالم صمت شعري رهيب، لا لأن شاعراً كبيراً مـــات، ولكن، لأن وهمنا بالشعر انطفأ، ولم يعد في إمكان أحد أن يجعل مِن تفاصيل حياتنا العادية حالة شعرية.ـ

برحيلـــه، استبشر بعض الشعراء خيراً. وتوقعوا أنهم بموته سيكبرون، وبغيابه سيتقدَّمون صفّـاً. أخطأوا في حساباتهم، الشعر فضّاح لِمَن دونه. قد يزداد شاعر حضوراً بغيابه ويصغر آخر على الرغم من ضوضائه. لـــــذا مَن كانوا في حياته كِبَاراً، مازالوا كذلك، وأولئك الشعراء الذين كانوا أقزاماً سيبقون كذلك، ولا جدوى من وقوفهم في طوابير الشعر. الشاعر كائن لا ينتظر. الشعر هو الذي ينتظره عصوراً.ـ

ما وقف نزار يوماً في الصف. لقد كان منذ نصف قرن، وحتى بعد موته، صفاً في حد ذاته، يمتد مِن أول إلى آخر الخريطة العربية، وعَـلَـمَــاً شعرياً تصطف خلفه أُمّــة بأكملها. كان الصوت الشرعي لعصرنا، وابن القبيلة الذي غَــدَا بانقلابه عليها ملكها.ـ
قـــال: «إنّ المبدعين خُلِقوا ليزرعوا القنابل تحت هذا القطار العثماني العجوز، الذي ينقلنا من محطة الجاهلية الأُولى، إلى محطة الجاهلية الثانية». وأثناء زرعه تلك الألغام، نسف نزار خلال نصف قرن، كل الشعراء الذين ركبوا قطار الشعر، من دون تَذاكِر، ومن دون أن يدفعوا مُتوجبات هذا اللقب. عاشوا مُعلّقين بأبواب القطارات والمهرجانات الضوضائية.ـ
لقد قضى عمره في ركلهم ودفشهم ومحاولة الإلقاء بهم من النافذة، دائم السخرية منهم والاستخفاف، وما سمعوه ولا صدّقوه.ـ

الآن، وقد غـــادر، وتركهم يسافرون نحو حتفهم في ذلك القطار المجنون، نعي أنه رحل وهو يحاول إنقاذ آخر قصيدة من أيدي مرتكبي الجرائم الشعرية. رحــل وهو يحاول إنقاذ آخر أنثى قبل وصول التتار. ذهب وهو يحاول إصلاح العطل الأبدي في مولِّدات الفرح العربي. لــــذا مات بصعقة كهربائية، مُعلَّـقـاً إلى قنديل الشعر، أثناء محاولته إدخال الكهرباء في شارع الحزن العربي.ـ
رحـــل آخِــــذاً معه كل ذلك الضــــوء.ـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق